يتشوّه مفهوم القوة والسلطة لدى العديد من الناس، فيظنون أنها تعني الحكم بالسوط والنار، وذلك بسبب انتشار الأنظمة الدكتاتورية عبر الزمان وإلى يومنا هذا. فكانت هناك على سبيل المثال أنظمة طبقية كالفرعونية التي قسمت الناس إلى خمس طبقات، أعلاها الحكّام وآخرها العبيد، وأخرى استبدادية كالرومانية التي ابتزت أموال شعوبها لرفاهية حكامها دون غيرهم. وفي العصر الحديث، لا تكاد تخلو دولة في المنطقة العربية -على سبيل المثال- من هذا النوع من الأنظمة، والتي نجدها تشترك جميعها في تأليه الحاكم واستعباد الشعب ومنعه من حرية التعبير وانتقاده للسلطة.
ولكن نجد تلك الدول في نفس الوقت وقد أعياها الضعف في تحقيق التنمية الداخلية وفي فرض هيمنتها على الآخر. كما فشلت الفرعونية في التوسّع، وأصبحت الحضارة الرومانية دون النامية لاعتمادها على الاستهلاك ما أدى إلى فقرها علمياً وتقنياً. ومعظم دول المنطقة العربية نجدها مفككة، وفاشلة بسبب هروب العقول منها، وقمعها للحريات واضطهادها للعلماء، ما أدى إلى انتشار الفساد والفقر والعنصرية فيها وهدر لمواردها من سوء توزيع وسرقة واستغلال. إضافة إلى تبعيتها للدول الأقوى منها والتي تعمل باستمرار على تحديد اقتصادها وتعليمها ودوائها وحتى مصيرها! وعلى صعيد آخر نجد أنظمة دول العالم المتقدمة مثل أميركا، اليابان، وألمانيا تملك قوة حقيقية قادرة من خلالها على بسط سلطتها ونفوذها. فنجدها تمتلك القدرة على التحكم في مصيرها وحتى في مصير الدول والشعوب الأخرى. ومن المثير في هذه الأنظمة اتباعها لنظام حكم مبني على أسس ومعايير مشابهة لتلك التي جاء بها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). فما هو المعنى الحقيقي للقوة والسلطة؟ وما تطبيقاتها في السيرة النبوية الشريفة؟ هذه المقالة تحاول الإجابة على ذلك: بداية، لأي أمة تريد النهوض والتمسك بزمام أمورها أن تملك قائداً. والسبب، بحسب نظرية أبراهام ماسلو (1943)، هو حاجتها لمن يعينها على البقاء ولدرء الاعتداء عنها؛ مثل توفير الغذاء والأمن والأمان، إضافة إلى مساعدتها في إيجاد معنى لوجودها يحفزها على العمل والإنتاج والطاعة. ولا يعني ذلك أن القائد سيكون قادراً على تحقيق ذلك لوحده، وإنما هو أيضاً، سيكون بحاجة إلى مساعدة الآخر والتعاون معه لتحقيق ذلك. وهذا سبب تمايز البشر؛ ليتعاونوا فيما بينهم لما فيه الخير لهم: » وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)» – المائدة. ثانياً، مع تعدد القادة المميزين عبر الزمان وفي الشرق والغرب من أمثال: توماس جيفرسون والمهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وغيرهم، قمنا باختيار سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كنموذج للقوة والسلطة لعدة أسباب، منها:
وقد حاولت اليهود اختبار علم الرسول (صلى الله عليه وسلم) أكثر من مرة، مثل سؤاله عن عقوبة الزاني المحصن، وإشارتهم على قريش بسؤاله عن أهل الكهف وذي القرنين والروح. فالرسول كان معلماً وبشيراً ونذيراً، وبيّن أن العلماء ورثة الأنبياء، وأهمية توليهم لمناصب الحكم؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة»، ولذلك يشترط في الأئمة تفوقهم في الدين، وأن يكونوا من العلماء في حكم الشرع؛ ليتمكنوا من توظيف خبرتهم وحكمتهم في تسيير أمور الناس لما فيه الخير لهم، وإن تخلّفوا على ذلك فلا شرعية لهم؛ لما سينتج عن ذلك من ظلم على العباد، وتشتت شملهم، وانهيار أمتهم. 4. طلب المشورة والعمل بها: على القائد استشارة الآخرين، واتخاذ القرار الذي تم الإجماع عليه، وهو من الأهمية البالغة لما له من أثر في إشعارهم بقيمتهم واحترامهم وكسب ثقتهم وإخلاصهم، إضافة إلى إتاحة الفرصة للاستماع إلى الأفكار الجديدة وتشجيع المبادرة والإبداع. قال تعالى: «وَالَّذِينَ استجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (الشورى: 38)، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يستشير صحابته في أكثر من موضع، وفي ذلك قال أبو هريرة: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم»، حتى قبل وضع الولاة والأمراء وقادة الجيش كان -عليه الصلاة والسلام- يستشير المسلمين في ذلك، كما استشار أصحابه في اختيار مكان غزوة بدر بقوله: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وكان أن أشاروا عليه أيضاً في غزوة أُحُد بقتال المشركين بدلاً من التحصّن داخل المدينة، وعمل بنصيحة الصحابي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب. كما كان -عليه الصلاة والسلام- يأخذ برأي زوجاته أمهات المؤمنين، فمثلاً، أشارت عليه زوجته أم سلمة بالنحر والتحلل من الإحرام في صلح الحديبية أمام المسلمين ليقتدوا به.
نيل الطاعةخامساً، «أعط الإنسان رغيف خبزه وكرامته وخذ منه كل شيء» لا يستطيع القائد أن ينال الطاعة بالأمر والجلد! وإنما سيعمل ذلك على إيجاد الفرقة بين الأفراد وسيعزز لديهم نوزاع التمرد والثورة. وهذا ما سجله التاريخ من ثورات حول العالم، كالفرنسية والكوبية والإيرانية وغيرها. فنيل الطاعة عملية تتطلب فهم الآخر واحترامه وتقديره وتلبية احتياجاته الفيسيولوجية التي سبق توضيحها. فلكل إنسان حقوق على الحاكم عليه تلبيتها ليمنحه الطاعة. وبحسب نظريات المفكّر جاك جاك روسو، وتوماس جيفرسون التي قامت عليها ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يجب توفير الحرية والمساواة والأمن وسيادة القانون. والإسلام بيّن أن هذه الحقوق ضرورات ليتمكّن الإنسان من القيام بالخلافة. فبدأ بتحقيق حرية الجسد بتجفيف روافد نظام الرق الذي كان سائداً في الجاهلية، حتى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن تسميتهم بالعبيد بقوله الشريف: (لا يقول أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي). وليس ذلك فحسب، وإنما تمكّن الإسلام من تحقيق الحرية الفكرية، وذلك من خلال دعوة الناس إلى التفكّر والتأمل: » قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)» – يونس. كما لم يفرض الرسول الإسلام بالإكراه، فالله بعثه ليكون مبشراً ونذيراً: » وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)» – النور. ثم على القائد عدم الانفراد باتخاذ ما يمس أمته من أحكام وقرارات دون استشارتهم والأخذ برأيهم. لما فيه من إشعار الآخر بالاحترام والتقدير ولمنع الظلم والاستبداد ولتحقيق أكبر منفعة للعامة والبلاد. وكان الرسول أكثر الناس مشورة لأصحابه كما سبق وتم توضيحه. ولا يتم تحقيق السلطة دون تحقيق العدل بين الناس؛ وذلك من خلال معاملتهم سواسية دون تفضيل فئة على أخرى. فالإسلام أمر بتقسيم الثروات بينهم بالعدل ومنع بيع مصادر الماء والنار. كما نفّر الظلم بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، طوقه إلى سبعين أرضين). وقد شمل الله تعالى أشكال العدل بقوله جلّ وعلا: » قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)» – الأنعام. إنشاء جيش من المخلصينسادساً، «لا يستمع العقل حتى يستمع القلب» بهذا المفتاح يتمكّن أي قائد من استمالة الناس ونيل ثقتهم وإخلاصهم. وبحسب فانفليت، فإنه ينبغي على القائد معرفة ما يريده الآخرون وما يحركهم ليتمكّن من نيل إخلاصهم. لذلك على القائد العمل على تحقيق المصلحة الشخصية للتابعين له قبل مصلحته، ويشترك الجميع بالرغبة في نيل الكرامة والعدالة والمساواة. والإسلام أول من رفع من شأن حقوق الإنسان والمرأة على وجه التحديد، من خلال تحريم الربا والبغاء ووأد البنات. كما ألغى العنصرية والتفاخر بالأنساب بقوله الشريف: (لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى). ولذلك نجد أن الفرقة الأولى التي لحقت بركب الإسلام كانت من الملونين والفقراء والنساء. كما في التواصل الدائم مع الأمة وتحفيزها وتذكيرها بأهمية الإخلاص والثواب، الأثر في المحافظة على إخلاصهم وولائهم. وكان الرسول عليه والسلام يحرص على التخاطب الدائم مع المسلمين وبكلمات بسيطة بعيدة عن التعقيد تلمس القلوب قبل العقول. مثل: (فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف). خلاصةوأخيراً، بحسب نظرية ابن خلدون للدولة، فإن هلاكها يأتي من الدعة والترف والبعد عن اتباع الحق. فمتى نزح الاهتمام بالإنسان إلى البنيان والعمران وإلى الرفاهية على حساب الرغيف والكرامة، سيبدأ الضعف ينخر بالدولة وستسقط بأيدي المرتزقة! وفي كل الحضارات التي اندثرت والأمم التي أبادها الله كانت بسبب ظلم وجور حكامها واستعبادهم لشعوبها؛ مثل مدين وثمود وفرعون وغيرهم. وكما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). فالقوة والسلطة ليست تلك التي تجبر الناس على الرضوخ للظلم، وإنما التي تسهر على خدمتهم فـ (خادم القوم سيدهم). والإسلام الوحيد الذي رفع أمته إلى مراكز القيادة العالمية وأمدها بالقوة لفتح أقاصي الأرض، وذلك لأنه جعل الناس جميعاً متساوين تحت راية التوحيد وسيادة القانون المستمد من الشريعة الإسلامية، وبالتالي حقق لهم الرفاهية والفوز في الدنيا والآخرة. Comments are closed.
|
Archives
November 2018
Categories |