بقلم إشراق كمال عرفة
تتكرر بعض القصص في القرآن الكريم لخدمة أغراض خاصة. إذ في كل عرض تكون القصة ضمن سياق خاص، وهذا من إعجاز القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال، تكررت قصة خلق آدم في كل من سورة البقرة والأعراف والحجر. ولكن جاء ذكرها في سورة البقرة ضمن سياق استخلاف آدم عليه السلام، أما في الأعراف، فكانت حول الطرد من الجنة وعداوة إبليس لآدم وذريته. وفي سورة الحجر، تم ذكر القصة ضمن سر خلق آدم وأسرار الهدى والضلال. وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام مثال آخر. إذ ذكر القرآن عدة جوانب من القصة في أكثر من سورة. منها: البقرة والأعراف والمائدة ويونس والكهف. ففي قصة المائدة، ذكرت جبن بني إسرائيل في دخول الأرض المقدسة بحجة أن فيها قوم أشداء. وفي سورة البقرة، نجد أن القصة قد ذكرت الكثير من تفاصيل قوم إسرائيل، مثل كفرهم المستمر رغم نعم الله الكثيرة عليهم، ثم شركهم بالله تعالى عندما واعد الله موسى عليه السلام. أما سورة الشعراء، فقد أوردت قصة موسى عليه السلام مع فرعون. ومنها ظهرت الكثير من صفات فرعون كطاغية، والتي لم تقتصر فقط عليه، وإنما ذكرت السورة أيضا صفات أخرى من قصص أقوام عاد وثمود وأصحاب الأيكة، وهذه الصفات هي التي سنحاول حصرها في هذا المقال، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها صفات ثابتة لكل طاغية في كل زمان ومكان، وهذا دليل آخر على إعجاز القرآن الكريم. بداية، الطاغية هو الجبّار العنيد، ومنهم من أفاد أنه الأحمق الظالم المستكبر. أما الطغيان فهو مجاوزة القدر والغلوّ في الكفر والإسراف في المعاصي. وكل من جاوز حدّه في العصيان يسمى طاغية. أما صفاته وهيئته فهي كما يلي: 1. الضعف والعجز: للحق قوة وهيبة تزعزع أكبر طاغية وتتركه حائرا عاجزا ضعيفا، تماما كما فعل فرعون في الرد على موسى عندما سأله فك أسر بني إسرائيل وتحريرهم من استعبادهم له. فردّ عليه فرعون: " قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29)". فهدده بالسجن لأنه لم يتمكّن من قهر الحق، فظنّ أن بسجه سيتمكّن من إسكاته. ثم ظهر ذعره الذي حاول إخفاءه بتهمة الباطل التي ألقاها على موسى عندما قدّم معجزته التي تمثلت بالثعبان واليد البيضاء بقوله: " قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ (35)". وفي إظهار تواضعه لحاشيته ولين القول معهم بطلبهم للمشورة، ما يعكس عجزه أمام الحق؛ فكيف وهو فرعون الذي يدّعي أنه إله يطلب مشورة غيره، وذلك حين قال: " فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)". 2. إلهاء العامة لإشغالها عن رؤية الحق: وذلك حينما دعا فرعون العامة لمشاهدة تحدي السحرة لسيدنا موسى: "فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) ". ومثل هذه المباريات من شأنها إشغال الجماهير عن الظلم والطغيان دون أن تفطن إلى اللهو والعبث الذي يقوم به الطغاة عليهم. 3. الاستعانة بجماعة مأجورة: تماما مثل السحرة التي جمعها فرعون: " فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (42)". فهذه الجماعة لا تنتظر من الحاكم الطاغية سوى المكافأة والأجر، ولا يهمها أي مبدأ ولا تملك أية قضية. ومثل هؤلاء نجدهم في كل زمان ومكان. 4. التهويل في الافتراء: يلجأ الطاغية إلى هذه الوسيلة لصرف نظر العامة عن حقيقته وكشفه لزيفه وظلمه، وهذا يحصل دوما عندما يشعر الطاغية بتهديد سلطته. فبعد أن أعلن السحرة إيمانهم بالله تعالى علنا وأمام الجماهير بعد أن رأووا معجزة سيدنا موسى، قال لهم فرعون: " قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ (49)". 5. الإسراف في التعذيب: وهو ناتج عن حماقة الطاغية الذي يظنّ أن بإسرافه في تعذيب أهل الحق من شأنه إسكاته. إضافة إلى ما يعكسه ذلك عن خوفه الشديد من فقدان سلطانه وهيبته. وهذا ما حصل تماما بتهديد فرعون للسحرة بعد إيمانهم: "لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)". 6. التعبئة العامة لمحاربة أهل الحق: يلجأ الطاغية إلى التعبئة العامة ليتمكّن من محاربة أهل الحق وسحقهم، فيقوم على الاستخفاف من أمرهم واستحقارهم ونشر الكراهية ضدهم ليظن العامة أنهم يستحقون الهلاك: " فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)". ثم يبيّن أهمية القضاء على أية حركة تصدر منهم، سواء كان قول أو قلم أو فكر وذلك خوفا من أن تنتشر وتهدي العامة: " وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)". 7. التفاخر في البنيان: وهو أمر يجيده الطاغية دون أي شيء آخر. فهو في ضلال يجعله يظن أنه مخلدا باق. وهذا ما قاله هود لقومه:" أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)". 8. الأمل والاطمئنان في البقاء بالسلطة: يظن الطاغية أن حاله لن تتغير، وأنه مخلد في السلطة وباق في الرخاء والنعيم. وهذا ما ظهر بقول سيدنا صالح: "أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)". 9. التهكّم من دعوة الحق: انطلاقا من ظنّ الطاغية أن حاله لن يتغيّر ولن يتمكّن أحد من سلب حكمه وملكه، نجده يتهكّم على دعاة الحق، ومنها مطالبتهم بالعذاب المُنذر: " فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)". 10. الفساد في الارض: وذلك من خلال احتكار النفوذ والسلطة لسلب أموال الناس وخيرات الأرض. وهذا ما ظهر بخطاب سيدنا شعيب لقومه: " وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)". إذ كانوا يتحكمون بممر القوافل، فيشترون من الناس بضائعهم بثمن بخس، ثم يبعونه بثمن غال. ولهذا عارضوا دين العدالة والمساواة، لما فيه من خطرر يهدد سلطتهم الجائرة على الناس. بقلم إشراق كمال عرفة
حاولنا حصر المكائد التي تعرّض لها الرسول – محمّد صلى الله عليه وسلم- في الجزأين السابقين من هذه المقالة. وذكرنا فيها بعض من آيات التسرية التي نزلت عليه في رد إلهي على كل منها، وذلك لتثبيت فؤاده وللتخفيف عنه. فالقرآن نزل رحمة وهدى للمؤمنين، وأول من تنعّم بهذا الفضل الكبير هو الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم-. وبما أن المكائد لا تتغير، وصفات الطغاة هي ذاتها في كل زمان ومكان، فإن ما عاناه الرسول الكريم، يعانيه كل داعية للحق، من كذب وسجن وتنكيل وتعذيب وحتى القتل. وبالتالي فإن كل آية تسرية خاطبت الرسول الكريم، هي تخاطب أيضا كل مؤمن وداعية للحق، لإعانته على الثبات على طريق الحق والإيمان والهدى. وفي هذا الجزء الثالث والأخير من آيات التسرية عن الرسول – صلى الله عليه وسلّم-، نفصّل آيات أخرى نزلت للتسرية على قلبه من خلال بيان حقيقة ومصير الطغاة، صفات الله تعالى وعظمته، وغيرها. وهي آيات عديدة معظمها وردت في السور المكيّة، نحاول حصرها بتسع نقاط، مع تفسير كل منها بحسب ما ورد في مجموعة (في ظلال القرآن الكريم) و(التصوير الفني في القرآن) لسيّد قطب: 1." فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)" – القصص. بيّن الله تعالى لرسوله الكريم مصير الطغاة بذكر مصير فرعون، الذي أغرقه، تماما كما تحذف الحصاة أو يرمى الحجر في الماء. مصير كله ذل، فلا يبتأس من جورهم ومكائدهم. 2." وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)" – الفرقان. في هذه الآية، أمر الله تعالى رسوله الكريم بالتوكّل عليه، وتم استخدام كلمة (الحيّ) في ذلك، لأن التوكل على الفاني من المخلوقات كأنه استناد لجدار ينهار لموتهم جميعا. بينما الله تعالى هو خالد دائم لا يزول، وقوي لا يضعف مع الزمن. 3." وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)" – الشعراء. هذه الآية تفصّل أكثر صفات الله تعالى، ليدرك الرسول عظمته وقدرته. فهو يرى حركاته ويسمع دعواته كما في النصف الأول في الآية. وبقوله (إنه هو السميع العليم) فيها إيناس للرسول الكريم بالرعاية والقرب والملاحظة. 4."قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)" – الشعراء. في ذكر قصة موسى عليه السلام بيان للرسول الكريم – صلى الله عليه وسلّم – مدى حضور وقرب الله لعباده ورسله بقوله (إنا مستمعون)، رسمها الله تعالى بصورة الاستماع كونها أشد درجات الحضور والانتباه، وكناية عن دقة الرعاية وحضور السند. كما فيها قوة وحماية ورعاية وأمان، وصحبة النصر والتأييد. 5." إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)" – الشعراء. في عناد الظالمين والكفرة عن الاستماع والاستجابة لدعوة الحق، بيّن الله تعالى لرسوله أنه ليس ببعيد عن قدرته من إنزال آية من السماء بحيث لا تتركهم إلا وهم مؤمنون مستسلمون، وبشكل صوّر خضوعهم وأعناقهم ملوية محنية، فيبقون على هذه الحال من روع الدليل على دين الحق. فما عليه إلا البلاغ وليس جَبْل كافة الناس على الهدى. 6. " قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)" – الشعراء في بيان لمدى الاستخفاف بالطغاة وبتفاهة تهديدهم، نجد استصغار المؤمنين الصادقين لكل في مافي هذه الدنيا من مكائد ومصائب، فهمهم فقط أن يغفر الله لهم، تماما كما حصل مع سحرة فرعون عندما ظهر لهم الحق، فلم يأبهوا بتهديد فرعون في قطع أوصالهم وفي صلبهم. وفي ذلك درس للرسول وللمؤمنين ممن معه من أهل مكة التي تعرضت للأذى من المشركين. 7." فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" - الشعراء يظهر في بداية هذه الآية صورة سريعة لمصير التكذيب برسالات الله. وقدّ فصّل سيّد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن) العديد من هذه الصور السمعية والبصرية التي تميّزت بها الآيات الكريمة لإيقاع يزلزل النفوس. فمثلا، في هذا المشهد (فكذبوه فأهلكناهم)، ذكر سيد قطب أن من ضمن آفاق التناسق الفني هو مدة عرض المشهد. وهنا نرى أن المشهد كان سريعا يكاد يخطف البصر لسرعته. وهذه الصفة تأتي دوما عند وصف الحياة الدنيا لتوضيح مدى قصرها. وجاءت هنا لبيان سرعة عذاب الله للطغاة الذي أتى مباشرة بعد تكذيبهم. 8."فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)" – الشعراء. في صورة أخرى لسرعة عذاب الله، وقدرته على تغيير أحوال البشر، وصفت هذه الآية حال قوم صالح. فبعد أن كانوا آمنيين متنعمين لا يؤمنون بتغيير الحال، نجد في قوله تعالى (فأخذهم العذاب) التعجيل بما حصل لهم. وهنا صورة سريعة لا تذكر حتى نوع العذاب، وذلك للمسارعة والتعجيل، فالغرض من هذه القصة هي التسرية عن الرسول الكريم وأن المكذبين لهم موعد لن يخلفوه. 9. " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)" – القصص. يبيّن الله تعالى لرسوله الكريم، أنه بعد أن فرض عليه الدعوة، لن يتركه للمشركين ليخرجوه من بلده، فهو سيعود فاتحا منتصرا إليها. ونزلت هذه الاية على الرسول عندما كان معه قلة من المؤمنين في مكة، والمشركين من حوله يكيدون له كافة المكائد؛ من هجر وقطع وتعذيب وإهانة وإشاعات ومحاولة للقتل، فهرب منها إلى المدينة مطاردا، ولكن مطمئنا على أن وعد الله له بالنصر آت لا محالة. وهذا وعد الله لكل من يسلك طريق الحق ويصبر في الثبات عليه، فمهما يتعرض للمكائد والتنكيل، سيأتيه نصر الله لا محالة، هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. بقلم إشراق كمال عرفة
تم التطرّق في الجزء الأول من المقالة إلى أن جميع الرسل تعرضوا للمكائد، وأن ذلك نوع من الابتلاء ليناولوا أعلى درجات الآخرة، وأن الله تعالى لم يترك أنبيائه دون نصرة لهم، وفصّلنا تلك التي عانى منها الرسول محمّد - صلى الله عليه وسلم؛ كالتحدي والتكذيب، وتعرّضه للاعتداء، والطعن في أهله، وأخيرا محاولة القتل. إلا أن هناك مكائد أخرى تعرّض لها نذكرها مفصلا في هذا الجزء من المقال، وهي: التضييق على قومه، الغدر والخيانة، والطعن في صفاته. وفيما يلي بيان لكل منها: أولا - التضييق على قومه وأول من تعرَّض للتضييق من أهله عمّه أبي طالب، وذلك عندما جاءته قريش أكثر من مرة يشكونه من ابن أخيه الذي برأيهم سبّ آلهتهم وسفّه أحلامهم. فرفض ذلك، ولكنهم خاصموه وعادوه، فاضطر حينها أن يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم- بقوله: فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينها قولته الشهيرة: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته). فكان له الأثر الكبير في قلب عمه ليقول له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا. وكان لأبو لهب دور كبير في التضييق على أهل الرسول - صلى الله عليه وسلّم). فقد حالف قريشاً على مقاطعة بني هاشم؛ فلا بيع لهم ولا شراء، وذلك في صحيفة كتبوها كي يجوعوا ويستسلموا. ثم أمر ولديه بتطليق ابنتي الرسول - صلى الله عليه وسلّم- رقية وأم كلثوم كي يثقل كاهل الرسول الكريم - بحسب رأيه- . ثم جاءت حادثة صلح الحديبية والتي تمت تعقيبا على منعه هو والمهاجرين من أداء مناسك الحج والعمرة بالرغم من قدومهم إلى مكة وهم في ملابس الإحرام ومعهم الهَدْي، إلا أنّ الله تعالى ألهم رسوله بالصبر وقبول الهدنة وعدم التصدي لهم لمنعهم من دخول البيت الحرام رغم مخالفتهم بذلك لكل عرف وعقيدة عرفها ذلك الزمان. قال تعالى: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)﴾ - الفتح> ثانيا - الغدر والخيانة ومنها بَث الشائعات التي تمس شخص الرسول- صلى الله عليه وسلّم - وأخلاقه الرفيعة. فقد كانت قريش تقوم برصد كل آتٍ من قبيلة ليسمع ويرى الرسول الجديد لتقول له إنه ساحر حلو اللسان ومن يسمعه يفقد عقله. أو تدعي بأنه كاذب وأن ما جاء به أساطير الأولين، فيرجع الوافد إلى قومه؛، أما الراشد منهم، فيصرّ على دخول مكة، فإن رأى منها المؤمن وسأله عن محمّد قال عنه كل خير . قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)﴾ - النحل وبعد أن يكشف الله تعالى مكرهم، يتوعّدهم بمصير الأمم السابقة بقوله جلّ وعلا في ذات السورة: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)﴾. وهنا يُشبّه الله تعالى جُور مكائد الظالمين وظلمهم بالبناء العالي المتعالي، فيسقطه الله ويُدمّر أساسه فيخرّ على أهله فيكون مقبرتهم في الدنيا والنار في الاخرة . كما تحالفت قريش مع يهود المدينة. وذلك بعد أن عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالسلم والمؤازرة، وسنذكر ذلك عند التفصيل في آيات التسرية إن شاء الله. ثالثا - الطعن في صفاته لم يكن كبراء قريش ممن طعنوا في صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم- يصدّقون ما أشاعوا عنه مِن أنه ساحر وكاذب وغيرها.وإنما كانت مجرد حرب إعلامية لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي جاء به، والذي زلزل القيم والأوضاع الزائفة التي كانوا يستندون إليها . هذا إضافة إلى الحسد من أن يكون هو رسول الله دون غيره، تماما كما استنكر أعالي قوم بني إسرائيل من أن يكون طالوت ملكا عليهم، وهو لا يملك المال والجاه. فبيّن الله تعالى أنه ينزل الفضل على من يشاء بقوله: ﴿ أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)﴾ - ص، ﴿ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)﴾ - الزخرف. وتعددت المكائد التي طعنت في صفات الرسول - صلى الله عليه وسلّم-، منها قيام المنافقين بالتشكيك في عدله بتوزيع الصدقات والغنائم. مثل ذو الخويصر التميميّ الذي قال: أعدل يا رسول الله، وذلك عندما كان يقسم الأموال. فقال له: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟). ثم نزل قوله تعالى نصرة لرسوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)﴾- التوبة. ومن ضمن الطعون في صفاته الكريمة، استنكار سماحته في استماعه للناس والإحسان إليهم، فقالوا عنه أنه أذُن، أي أنه يسمع لكل قول، وبالتالي فهو فريسة للخداع، فلا يفطن إلى غش في قول أو كلام زور وإن حلف له القائل، وهنا ينصره الله تعالى فيقول إنه أذُن خير باستماعه إلى الوحي ومن ثم إبلاغه للناس لتحقيق خيرهم وصلاحهم. قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)﴾ - التوبة وكان لزواجه من زينب بنت جحش ما جعل أعداء الإسلام يطعنون من خلاله شخصه الكريم ويلفقون حوله الأكاذيب . كما لم تترك قريش مصائبه وأحزانه دون أن تطعن به من خلالها، فقال السفهاء عنه إنّه أبتر، وذلك لموت أطفاله من الذكور، فيقول آخر: دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره، وذلك في نوع من السخرية والاستهزاء منه وأنه لا داعي لإشغال النفس في محاربته وعداء دينه. فأنزل الله تعالى سورة كاملة تسري عن نفس الرسول الكريم من هذا القول بالتحديد ، بقوله جلّ وعلا: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)﴾ - الكوثر. فالله تعالى يبيّن أنه أعطى رسوله الخير الكثير كوثر من كوثر، وفي الدنيا والآخرة، وأقلّه رفع اسمه وذكره إلى يوم الدين، فأي ممن استهزأ به استمر وامتد اسمه كالرسول الكريم؟ فالدعوة لا ولن تكون بتراء والحق سينتصر في المعركة الخالدة بين الإنسان والشر، إلا أنّ الناس تحسب بمقاييسها وتغفل أن الله تعالى لديه مقاييس لا يفقهونها فينخدعون ويغترون بما يفعلون ويتجبرون في هذه الدنيا . فسبحانه نصر عبده وأنجز وعده. ومن الجدير بالذكر أن هذه المكائد التي حاولت إيذاء الرسول الكريم لم تكن وحيدة الطابع، بل لجأ المشركون إلى الكيد الناعم من خلال محاولة فتنته عن الدين الجديد. مرة يعرضون عليه الملك والأموال والجاه، ومرة أجمل النساء، وأخيرا يدعونه إلى الصلاة لآلهتهم كما يدعوهم هو إلى الله، فيتشاركوا في عبادة الله والأصنام، فيرد الله عليهم بإنزاله لسورة كاملة لما فيها من كيد عظيم بقوله جلّ وعلا: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾ - الكافرون. بقلم إشراق كمال عرفة
تمايزت الأمم عبر العصور بين مؤمن وكافر بسبب تكذيب الرسل والكيد لهم. ومن أبرز أسباب تكذيب الرسل سببان:الأول، اعتقادهم بأن الرسل يعلمون بالغيب ويملكون قدرات خارقة، وذلك كونهم تناسوا أن الرسل منهم ومثلهم من البشر لا يملكون تحقيق المعجزات أو معرفة الغيب دون إذن من الله تعالى، وثانيا لحسدهم ورغبتهم في الاستمرار بالظلم واتباع الأهواء والشهوات. قال تعالى: ” وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)“ – الشورى. وطال التكذيب الصادق الأمين وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله تعالى آيات للتسرية عنه، أبرزها تذكيره بأن ما يتعرّض له من الكيد والتكذيب قد طال كافة الرسل والأنبياء من قبله، فما عليه إلا الصبر واللجوء إلى الله. قال تعالى: ”وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)“ - هود. إلّا أنّ الله تعالى في الوقت نفسه كان يرعى رسله؛ فلم يدعهم يتعرضون للمكائد والتكذيب دون أن ينصرهم في النهاية، فقد كانت تلك الابتلاءات رحمة بهم ليغفر لهم، وليرزقهم أعلى الدرجات في الاخرة. وسيتم التركيز في هذا الجزء وما يليه على طبيعة الحملة ضد الرسول محمد- صلى الله عليه وسلّم- قبل التطرق بالتفصيل لآيات التسرية عن نفسه الشريفة: أولا- تاريخ الحملة بدأت الحملة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول البعثة. ولا تزال مستمرة على الدين العظيم الذي جاء به لتحرير البشرية من جشع وظلم وجور الحكام والمصرفيين وفساد الفلاسفة من الإباحيين ممن يبتغون عَرض الحياة الدنيا، والمعاندين لمن يعترض على حكمهم أو من يحاول تخليص الناس ممن هم في قبضتهم. قال تعالى: ”وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين (174) وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)“ – الصافات إن ما تعرّض له الرسول الكريم مشابه لكل داعية للحق، فالبشر يدركون ويميّزون الحق من الضلال، إلا أن الظالم منهم يكره الحق لأنه ضد شهوته، فهو إنسان ضعيف لا يستطيع كبح جماح نفسه، فيقف في وجه الداعية ويؤذيه، بل ويحاربه بشتى الوسائل والأساليب، وهذا ما بيّنه الله تعالى بقوله: ”لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)“ – الزخرف وكان الله تعالى قد وجّه رسوله إلى الصفح والإعراض عن الكائدين، ومواجهة مكائدهم بالسلام والسماحة مع الطمأنينة في القلب مع تحذير الطغاة من يوم مشهود، بقوله جلّ وعلا: ”وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)“ – الزخرف. كما بيّن الله تعالى أنه لن يترك الناس يؤذون رسوله ومن كانوا معه دون عقاب، وأوضح الله تعالى أن كافة مكائدهم في السر والعلن لا تخفى عليه، فهي مهما عظمت ستزول وسينتصر الحق. قال تعالى: ”إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)“ – الأحزاب وصدق الله تعالى. فبالرغم من كلّ المكائد التي طالت الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحققت العقيدة ووصلت الرسالة ولا يزال المئات يدخلون في الإسلام. فالنصر يأتي لا محالة، وفي حال تأخره، فذلك لحكمة يريدها الله؛ إما لنصر أكبر، أو لخسارة أذل للباطل. ثانيا - أنواع الحملة ذكرت السور المكيّة فصلاً واسعاً عن مكائد قوم قريش للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - مع الرد الإلهي في الدفاع عنه، فقد كان الله مع الرسول في كل خطوة وفي كل حادثة؛ ينصره ويتحدى من يتحداه ويكشف مكائد المنافقين وأهل الكتاب، المعلن عنها والمستتر. هذا من جانب، ومن جانب آخر أخبر الله تعالى نبيّه الكريم العديد من قصص الغابرين والأنبياء السابقين للتسرية عن نفسه في مواجهته للسفهاء وأذى المكذبين. وفيما يلي محاولة لحصر تلك المكائد التي تنوعت أساليبها، نذكر منها في هذا الجزء أربعة على أن نستكمل البقية في المقالة القادمة إن شاء الله: أ. التحدّي والتكذيب إنّ أوّل مَنْ آمن مع الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – كانوا من الفقراء والمساكين والنساء. أمّا مَنْ تعرّض لشخصه الكريم بالتكذيب فكانوا أشراف قريش وأغنياءهم، وذلك خوفا على مناصبهم، فالمادة طمست فطرتهم، وخافوا من فقدان الجاه والسلطة. هذا إضافة لاعتزازهم بدين آبائهم وأجدادهم فلم يَرَوْا أنها شرك وضلال. وكان قد أخبر الله تعالى رسوله الكريم أن تكذيب قومه له ليس بالأمر الجديد. فهو حال الدعاة في كل زمان؛ فالطغاة يواجهون دوماً دعوة الحق بالتحدّي والسخريّة والتكذيب. قال تعالى: ”فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)“ - القصص. ويشير الله تعالى إلى رسوله الكريم بإخبارهم بأن لا نصير له من دون الله، ولا مهرب له منه إن كانت دعوته افتراء كما يدّعون، بقوله جلّ وعلا: ”أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)“ – الأحقاف. ب. الاعتداء بعد موت عمّه ابي طالب، تطاولت قريش وزاد اعتداؤها على النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام، ومنها قيام أحد السفهاء بنثر التراب على رأسه الكريم، فدخل بيته والتراب عليه، فقامت إحدى بناته تغسله وهي تبكي، فقال لها: (لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك). ويقول بين ذلك: (ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب)، وذلك لأنه لم يكن لديه سواه ممّن يحميه من عشيرته. كما تعّرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمحاولة اعتداء أخرى عندما كان على راحلته عائدا من غزوة تبوك، إذ جاء رهط متلثمون على الرواحل أرادوا أن يطرحوه إلا أنّ الله تعالى أنجاه منهم. ومن كيد أبي لهب، أنّه سبّ الرسول عندما دعاهم إلى البطحاء ليعلن لهم أنه نذير من رب العالمين، فقال له: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك. فأنزل الله تعالى يرد عن رسوله الكريم: ”َتبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)“ – المسد. أما زوجة أبي لهب، أم جميل، فقد كانت تنثر الشوك في طريق الرسول، فأنزل الله تعالى فيها وصف حمّالة الحطب كناية عن سعيها للأذى والفتنة والوقيعة: ”وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)“ – المَسَد. فلما سمعت بهذه الآيات، قامت تريد أذى الرسول الكريم، فوجدت أبا بكر وكان الرسول إلى جانبه إلا انها لم تبصر إلّا بأبي بكر فسألته- وكان في يدها ملء كفّها من الحجارة-: يا أبا بكر. أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا القهر فاه. ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: (ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني). ج. الطعن في أهله وجاء ذلك على يد رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي رمى هو ورهط من المنافقين والمشركين زوجته عائشة - رضي الله عنها- في شرفها بحادثة الإفك، ثم تداولها بعض المسلمين، مثل حسّان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، فكان أن تعذّب عليه الصلاة والسلام نفسيّاً لمدة شهر لا يدري ولا يتثبت من قول، إلّا أنه لم يتعجّل في اتخاذ أي قرار ضد عائشة، بل سألها إن كانت مذنبة أن تتوب إلى الله. ثم برّأها الله تعالى بآية الإفك، وفيها بيّن جلّ وعلا حد قذف المؤمنات ممن لم يأتوا بأربعة شهداء وإلا فإنّهم من الكاذبين، فكان ذلك الرد الإلهي على كيد الأعداء من اليهود والمنافقين. قال تعالى: ”إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)“ – النور. ولم ينتهي الرد الإلهي بعد، إذ عاتب الله تعالى العصبة المسلمة التي تداولت الحادثة فيما بينها، كون الأجدر بها أن تستيقن من الخبر قبل أن يكشفه الله على أنه بهتان وكذب. وكان أبو أيوب الأنصاري من أنكر هذه الحادثة بمجرد سماعه بها، إذ عندما سألته زوجته إن بلغه خبر الإفك أجاب: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك، فأنزل الله تعالى قوله في الأنصاري: "وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)" - النور. د. محاولة القتل قال تعالى: ”وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)“ – الأنفال. وكان أن تجمّع المشركون للتخطيط من أجل النيل من الرسول - صلى الله عليه وسلم- وذلك إما بأسره إلى أن يموت أو قتله أو نفيه، ثم استقروا على قتله على أن يكون ذلك على يد مجموعة من الفتية من كافة القبائل ليضيع دمه بينهم وبالتالي تعجز قبيلته على الأخذ بالثأر من كافة تلك القبائل، فيقبلوا بالديّة وينتهي الأمر. إلا أن الله تعالى حمى رسوله، فأطلعه على أمر مكيدة قتله، فعندما علم علي بن أبي طالب بذلك، نام في فراش الرسول الكريم تلك الليلة فداء له، وعندما هاجمته قريش صباح اليوم فوجئت به، ثم حاولت اللحاق بالنبي حتى وصلت الغار الذي اختبا فيه مع أبي بكر، فأمر الله تعالى العنكبوت بنسج بيتها حول مدخل الغار، فعندما رأته المشركين قالوا لو أنه دخل الغار لما كان نسج العنكبوت على بابه، وهكذا حمى الله رسوله ونصره على كيد المشركين . وبعد غزوة بدر قامت قريش بالتحضير للحرب على الرسول - صلى الله عليه وسلم –. فعندما عاد جيش المشركين المهزوم، ذهب عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية لمقابلة أبي سفيان بن حرب وممن كانت لهم في تلك الغزوة من عِير فقالوا: إنّ محمّدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، وكانوا جوابهم بالإيجاب، فنزلت فيهم الاية الكريمة: ”إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)“- الأنفال. بقلم إشراق كمال عرفة
إنّ عدد السور في القرآن الكريم هي 114 سورة، ومقسمة إلى: مكية (وهي السور التي نزلت قبل هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم)، ومدنية (وهي السور التي نزلت بعد هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم-). وعدد السور المدنية 20 سورة، والمختلف عليها إن كانت قد نزلت قبل الهجرة أو بعدها هي سبعة سور: الرعد والرحمن والمطففين والقدر والبينة والزلزلة والإخلاص، والباقي هي سور مكية، وذلك بحسب ما ورد في كتاب (في ظلال القرآن) لسيّد قطب. وأضاف قطب إلى أن السور المكية تملك سورا أطول من تلك الموجودة في السور المدنية كونها عالجت موضوع العقيدة في النفوس. أما السور المدنية، فتتميز سورها بقصر آياتها كونها عالجت مختلف القضايا الحياتية التي واجهها المسلمون، كما شملت على أحكاما لا تنتظر إلا اتباعها كون المسلمون أصبحوا مؤمنين ومستعدين لاتباع الأحكام النازلة من الله دون مجادلة أو تفسير أو تاخير. ومن الأمثلة على المواضيع التي عالجتها السور المكية: الصبر على أذى المشركين، والدعوة بالموعظة الحسنة، والإخبار بقصص السابقين للتسرية عن الرسول الكريم والتي فيها عظة وعبرة، من أهمها أن النصر من سنة الله وأنه من نصيب المؤمنين مهما كبر الظلم وعلا في الأرض. أما المواضيع التي عالجتها المدنية فهي: تكريم المرأة بتقرير وإعطاء حقها في الميراث والزواج، والإخبار عن المنافقين واليهود، وشرع قتال المشركين، وبيان أخبار بعض الغزوات مثل بدر وأحد وتبوك. وفي كلا السور المكية والمدنية، تكررت في الآيات الكريمة كلمة (الأمثال)، مثل قوله تعالى: - "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)" – الرعد. - "وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)" - ابراهيم. - "وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43)" – العنكبوت. - "وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) " – الحشر. وتنقسم الأمثال التي ذكرها القرآن الكريم إلى ثلاثة - بحسب ما ذكرها كتاب (علوم القرآن) الصادر من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عُمان- وهي: 1. المصرّحة: وهي التي تظهر في الآية بكلمة (مثل)، فتكون الآية حينها واضحة بأن الله يضرب المثل كقوله تعالى في سورة البقرة: " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)". 2. الكامنة: وهي الآيات التي تخلو من كلمة (مثل)، إلا أن مضمونها يبيّن أنه مثل متداول بين الناس، كقوله تعالى في سورة الفرقان: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67)" ويقابلها المثل العربي: (خير الأمور الوسط). وقوله تعالى في سورة النساء: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (123)"، ويقابله في أمثال العرب: (كما تدين تدان). 3. المرسلة: وهي مشابهة للكامنة، إلا أنه لا يقابلها عند العرب أي مثل متداول بينهم، كقوله تعالى: - "أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)" – هود، - "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (84) " – الاسراء، - "هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) " – الرحمن، - "عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (216)"- البقرة. من هنا نرى الحكمة الإلهية في ضرب الأمثلة وما فيها من تصوير فني لتقريب المفهوم للعقل البشري القاصر، وبالتالي يسهل إدراكه وفهمه لكلام الله عز وجلّ. كما يوجد في القرآن تصوير حسي وتجسيم لقصص واقعية ووصف لمشاهد واقعة. فالقصص مادة لتربية النفوس ولتقرير الحقائق وسنن الكون والوجود. ويقول سيّد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن) أنّ الأداة المفضلة في القرآن هي التصوير الفني وما فيه من تجسيم ورسم ونغمة وتطويل وقصر في الآيات وإحياء للجماد بما يتفق مع السياق ليعطي أكبر الأثر على القارئ والمستمع من الفكرة الواحدة. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك: 1. بلاغة رسله في الحوار والسرد: مثل بلاغة سيدنا موسى في حواره مع فرعون في سورة الشعراء بقوله:" قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (26) "؛ أي رب العالمين هو رب فرعون الذي هو عبد من عبيده وليس بإله كما يدّعي في قومه. 2. البلاغة في وصف ضعف وعجز الطغاة عند مواجهة الحق الذي هو نفسه لا يختلف في أي زمان ومكان. تماما كما فعل فرعون في الرد على موسى عندما سأله فك أسر بني إسرائيل وتحريرهم من استعبادهم له بقوله في سورة الشعراء: "قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29) "؛ أي سجنه لإسكات الحق لعجزه عن قهره. 3. البلاغة في التعبير والوصف الذي يعكس حالات نفسية مثل الخوف والقلق والغضب، ومحاولة إلهاء الطغاة العامة عن الحق المبين كما في قصة فرعون في سورة الشعراء: "قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)". 4. التقابل التصويري. مثل ذكر الجبال والأنهار في سورة النمل: " أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ (61)". وقوله في ذات السورة: "وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ (85) " فياتي وصف القوم بالوجم والصمت وربط اللسان بعد ذكره تعالى للدابة التي ستظهر في آخر الزمان لتكلّم البشر:" وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ (82) ". وأيضا ذكر الماء العذب والمالح الأجاج في سورة فاطر: " وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ (12)". 5. التناسق في السياق القراني مثل قوله تعالى في سورة النمل: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)). يقول سيّد قطب في تفسير ذلك، أنه تعالى ذكر الرزق من السماء والأرض بعد بدء الخلق وإعادته لارتباطهم بذلك، فالأرض تتصل بالبدء كونها التي يعيش عليها الإنسان، ومنها يُبعث ويُحاسب على هذا الرزق، ومن السماء ينزل المطر إلى الأرض، وإليها يُبعث الإنسان للجزاء. 6. الحديث عن أخبار الغيب من حال أهل النار وأهل الجنة، فرحمة الله تكشف المصير مع التفاصيل وبسرد صريح مباشر واضح. فيكون لدى الإنسان فرصة للإيمان قبل فوات الأوان. قال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)" – الدخان. وفي وصف حال أهل النار قوله تعالى: " ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)" – الواقعة. 7. حاسة التذوّق الجمالي العالي. كما في قوله تعالى: " أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)" – فاطر. يقول قطب أن ذكر تعداد ألوان الصخور وتنوعها في اللون الواحد بعد ذكر ألوان الثمار توقظ في القلب حاسة ذوق جمالية عالية، والتي كانت ترى قبل ذلك الجبال على أنها مجرد جماد من صخور صماء، وذات الشيء بالنسبة إلى لون الثمر؛ على أنه مجرد لونا. فهذه الآية تنبّه الإنسان إلى الالتفات إلى جمال صنع الله في كل من الجبل والثمر. 8. دقة التعبير وإيجازه. كما في قوله تعالى: ”رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)“ - الصافات. يقول قطب أن لكل نجم مشرق ولكل كوكب مشرق مختلف عنه، وهناك بالتالي مشارق عديدة في هذا الكون التي لا تقتصر على كوكب الأرض. 9. يظهر في بعض السور المكية نوع آخر من البلاغة يتمثّل بابتداء بعض السور بأحرف لا تملك معنى مفهوما مثل: - "المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)" – الأعراف. - "الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)" – يونس. - "الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)" – السجدة. ويرى قطب في معنى هذه الاحرف أنها تحدي للبشر من أن يصوغوا منها كلمات كالموجودة في آيات القرآن الكريم، وتشكيل جمل بها قوة خفية وتعبير إعجازي في المعنى، واستخدام للألفاظ بشكل يجعل لها سلطانا وإيقاعا على النفس والقلب والحس. إذ أن الفرق بين القرآن الكريم وأي كتاب آخر، هو تماما كالفرق بين خلق الله وما يصنعه البشر في أي شئ. فهم لا يملكون ولن يصلوا لكمال خلق الله في أصغر الاشياء من ألوان للطير والزهر والثمر وغيرها. ومن الجدير بالذكر، قيام أحد الباحثين مؤخرا بمحاولة تفسير هذه الأحرف. وهو الباحث لؤي الشريف المهتم في مجال اللغات السامية. فبرأيه أن أبجدية اللغة العربية مأخوذة من أبجدية اللغة السريانية، وبالتالي فإن الأحرف التي ذكرها القرآن لا تملك أي معنى في اللغة العربية، وإنما تملك معنى في اللغة السريانية. فمثلا: - “الم“: تعني (اصمت). وهي ذات اللفظ التي استخدمها النبي داوود في خطبه عندما كان يريد قول شيء مهم. ومذكور ذلك في الزبور والتوراة. - “ألر“: تعني (تبصّر) أو (تأمل بقوّة). ونجد أن الآيات التي تلت هذه الأحرف تتطلب التبصّر والتأمل. مثل قوله تعالى: ”الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)“ - إبراهيم - ”طه“: وتعني (يا رجل). الهاء حرف نداء، والطاء تعني رجل. - ”كهيعص“ أي (هكذا يعظ). ومن العلماء من أفاد أن الأحرف هي لشد انتباه القارئ وزيادة فضوله لمعرفة ما سيأتي بعد هذه الأحرف. هذا كله والله تعالى أعلم! فهي مجرّد اجتهادات علمية تحتمل الصواب وتحتمل الخطأ وللقارئ أن يميل إلى ما يراه مناسبا لأي منها. |
موضوع جديد انضم للمجلة من خلال عدة فصول، بحيث يتم نشر فصل في كل عدد وابتداء من مارس 2017. وسيتم نشر كافة الفصول في هذا الباب عند نشر المجلة Archives
July 2017
Categories |