بقلم خي هاي
لأكثر من 15 عاما، عملت في مجال المالية. وكان يمتلك الناس الذين كنت أعمل معهم عدة أشياء مشتركة؛ مثل حب الأحذية الفارهة من غوتشي، وعشق تناول الإفطار لدى ليفر هاوس بما قيمته 39 دولارا. وكلنا كنا نؤمن بالكأس المقدس، والذي كنا نشير إليه بالرقم! فكل شخص في المالية، لديه رقما خاصا به. أي مبلغ المال الذي نمتلكه في حسابنا بالبنك قبل التقاعد لنتمكّن من التجوال حول العالم، أو للتفكير في ريادة الأعمال، أو لتمضية الوقت مع أطفالنا، أو أي شيء آخر نرغب في عمله. فهذا الرقم كان الحل لكل مشاكلنا التي نواجهها في حياتنا. فهو الذي كان يجعل كل ساعات العمل المضنية تستحق عرق الجبين. آمنت بالرقم لوقت طويل. وكنت أعتقد أنني ما زلت بحاجة إلى صفرين لأصبح على برّ الأمان، والذي سيجعلني أمضي بقية حياتي دون القلق على حالتي المادية. ولكنني توقفت! لقد أدركت أن ذلك الرقم هو الطريق المختصر والكسول، والذي يمنعني من تقييم معنى حياتي الخاصة. وفيما يلي كيف يقوم الأشخاص في مجال المالية بحساب الرقم الخاص بهم. يقومون أولا بإيجاد المبلغ الذي سينفقونه سنويا في أحلامهم عند التقاعد، ثم يقومون بقسمة ذلك المبلغ على عوائدهم الاستثمارية المتوقعة لحساباتهم الإدخارية وباقي استثمارتهم. فمثلا، إن كان مبلغ التقاعد الخاص بك سنويا هو 150 ألف دولار، وأنت تتوقع 2% كنسبة لعوائد استثمارك سنويا. فالرقم الخاص بك يكون حينها 7.5 مليون دولار. فإن ظننت أن عائدك الاستثماري طويل المدى يساوي 8% لسوق الأسهم، فأنت تحتاج إلى 1.9 مليون دولار قبل أن تتمكّن من التقاعد. ويمكنك تعديل هذه المعادلة لتناسب نفقات أخرى، مثل حفلات الزفاف لأطفالك وشراء منزل ودفع مصاريف الجامعة. وشخصيا، كنت أملك رقمي الخاص. وكان يتغيّر عبر السنوات من خلال إضافة أصفار وإزالتها. ولكن بالنهاية تخليّت عن كامل المعادلة، لأن فيها أخطاء متوارثة. فمن هذه الأخطاء هو استحالة تحديد الرقم. وذلك لأنك تقوم فقط بالتخمين بما سيحصل لك في المستقبل المجهول. فمثلا لا ندري متى سنتزوج، أو عدد أطفالنا الذين سننجبهم، أو فيما لو أننا لن نتمكّن من إنجاب أي أطفال. وبذلك وجدت أن الرقم يعطيني وهم بالسيطرة؛ إذ كان تخطيط حياتي على الورق يعطيني شعورا بأنها تسير على ما يرام، أو أنها ستصبح كذلك في المستقبل القريب. ومشكلة أخرى تتعلق بالرقم، هو أنه قد يقودك إلى مسار خطر. فهو مجرد أداة مالية، ولكنّه أصبح بالنسبة لي أكثر من مجرّد ذلك. لقد أصبح دليلا على النجاح، وسباقا مع الآخرين لمن يتمكّن من تحقيق الرقم الأعلى. وعندما بدأت أفكر في الرقم بذلك الشكل، بدأ يكبر بشكل سريع. لقد زاد انتباهي وانجذابي لمؤشرات الحالة المادية لدى الآخرين. فمثلا، لم أكن أهتم بالساعات، ولكن بدأت ألحظ تلك التي يرتديها المدراء وذوي الشخصيات المرموقة. فأردت واحدة أنا أيضا مشابهة لها. وبغض النظر إن كان سعرها مساو لقيمة إيجار منزلي لأربعة أشهر. ثم بدأت بمقارنة كل شيء أملكه مع الآخرين. مثل خواتم الخطوبة، الشقق، الرحلات الصيفية. فأصبحت حياتي كما وصفها بين كازنوغا (هيروين مقارنة الحالة). وكانت خبرتي متماشية مع الأبحاث التي أظهرت أن الأشخاص الذين يسعون إلى أهداف خارجية كالمال وتحقيق حالة اجتماعية ما، يملكون حبا متدنيا لأنفسهم، واحتمالية للوقوع في فخ الإدمان، والإكثار من مشاهدة التلفاز. ولا يزال هناك الأسوأ! فالأشخاص الذين يتأثرون بالساعات التي يرتديها الأعلى منهم طبقة، هم سيئون مع أصدقائهم وأزواجهم وأحبائهم. إذ تشوب العلاقة الغيرة الشديدة. وبغض النظر عن امتلاك لمهنة رائعة وعائلة محبة، ومجموعة من الأصدقاء، جعلني الرقم أشعر بعدم الأمان وبالنقص. وأكبر مشاكل الرقم هو التركيز عليه. فالتفكير الدائم بمقدار المال الذي تحتاجه لتعيش مستقبلا حالما يقتل متعتك في عيش الحاضر. كما أنه يخطط لك لحياة بعيدة المدى وغير مضمونة. فقد كنت دوما أقول لنفسي: ”عندما أتمكّن من تحصيل الرقم، حينها سأكون سعيدا وسأبدأ بعيش حياتي“. وهذه الطريقة في التفكير سرقت مني متعة تناول بالطعام وتمضية إجازاتي. فبدلا من الاستمتاع بالمشهيات، كنت أفكر في التحلية، وبدلا من الاستمتاع في أشجار النخيل وشاطئ البحر أثناء الإجازة، كنت أخطط لإجازتي التالية. وكل ذلك جعلني دوما غير راض عن أي شيء. حتى بعد أن اقتربت من تحقيق الرقم! وكلما زاد تفكيري به، زاد إدراكي بسوء فهمي حول المال والسعادة. وعندما توقفت عن التفكير بالرقم، بدأت أستمتع برفقة زوجتي وابنتي، وبالتأمل وبممارسة التمارين والأنشطة الرياضية والخارجية، والاستمتاع ببعض الهدوء التام بعيدا عن أية اتصال وتواصل على الانترنت. حينها بدأت أشعر بصحة أفضل في عقلي وجسدي وروحي. ولكن لا أزال أحتاج إلى مقدار أساسي من الأموال لأتمكن من دفع الفواتير ورعاية عائلتي. ولكن لا أريد التركيز على التوفير من أجل إجازة الأحلام في المستقبل البعيد. فبدلا من ذلك، أريد إنقاذ اللحظات القيّمة مع عائلتي. أحتاج إلى الشعور بالسعادة الآن. بقلم إشراق كمال عرفة
يزداد الاهتمام في القيادة والصفات المطلوبة في القائد يوماً بعد يوم، وذلك لأهميتها في تحقيق التطوّر والنجاح في مختلف مجالات الحياة، من سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية، وظهرت الكثير من النظريات المتضاربة حول طبيعة الصفات القيادية، فمثلا، أفادت أولى نظريات القيادة (نظرية الرجل العظيم - 1840) التي طرحها الكاتب توماس كارليل، بأن صفات القيادة تُولد مع الإنسان، ولا يمكن اكتسابها من أي بيئة؛ مما يدفع إلى وجود عدد محدود من القادة، إلا أن (نظرية السمات - 1930) التي وضعها العالم النفسي رايموند كاتل أفادت بإمكانية اكتساب صفات القيادة وليس شرطاً أن تكون موروثة فقط، فمثلاً، تعدّ الثقة بالنفس وحب التعاون من الصفات الموروثة، أما مختلف المهارات الاجتماعية كالإقناع والقدرة على التواصل مع الآخرين فيمكن تعلّمها لاحقاً. وعلى الرغم من وجود الكثير من النظريات الأخرى التي تم طرحها بعد ذلك حول الصفات المطلوبة للقائد، فإنها تفتقر إلى الإثبات التطبيقي، ولكن قبل ذلك بقرون، كان قد أوجد الإسلام نموذجاً واقعياً كاملاً ومتكاملاً للقائد القادر على إلهام الآخرين. فالقائد الملهم هو القادر على تحفيز الآخرين، وإثارة روح الحماس والتعاون فيما بينهم، وإخراج أفضل ما لديهم، كما يساعدهم على تحدّي أنفسهم، وتطويرها ليكونوا أفضل حالاً. ولكن ليحقق ذلك عليه أن يتحلّى بصفات مميزة، وهي التي سيتم التعرّف عليها من خلال شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: أولاً: على القيادي الملهِم التحلّي بالأخلاق الحسنة؛ ليتمكّن من التأثير على الآخرين، وهذا ما أشار إليه أيضاً ستيفن كوفي، في كتابه الأفضل مبيعاً حول العالم: "العادات السبع لأكثر الناس كفاءة"، فالشخص ذو الخلق الحسن هو الذي يفضل الناس التعامل معه على أي أحد آخر، فهي تكره الكاذب والمخادع وتقطع علاقتها معه، ولذلك كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل الناس خلقاً؛ لقوله تعالى: "وَإنَّكَ لعَلى خُلقٍ عَظيم" (القلم: 4)، وقالت عنه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في وصفه: "كان خلقه القرآن". كما عُرف -عليه الصلاة والسلام- بالصدق والأمانة حتى قبل البعثة، فقد قبلت الأطراف المتنازعة من قريش تحكيمه في وضع الحجر الأسود، بقولها في الإشارة إليه عند وصوله إلى الكعبة: "هذا الأمين، رضينا به حكماً". ثانياً: تعد المعرفة والحكمة من الصفات المهمة للقائد الملهِم وذلك ليتمكن من توجيه الناس لما فيه الخير لهم، فبحسب صاحب أفضل الكتب مبيعاً حول العالم "جون أدير"، على القيادي الملهِم التفوق بعلمه وحكمته على غيره. وعلى الرغم من أميّة الرسول الكريم، فإن الله -تعالى- أنزل عليه الحكمة والعلم الغزير بما يتعلّق بقيادة الأمة، وذلك عن طريق الوحي، سيدنا جبريل عليه السلام، قال تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى" (النجم: 2 -5). وقد حاولت اليهود اختبار علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة، مثل سؤاله عن عقوبة الزاني المحصن، وإشارتهم على قريش بسؤاله عن أهل الكهف وذي القرنين والروح. فالرسول كان معلماً وبشيراً ونذيراً، وبيّن أن العلماء ورثة الأنبياء، وأهمية توليهم لمناصب الحكم؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، ولذلك يشترط في الأئمة تفوقهم في الدين، وأن يكونوا من العلماء في حكم الشرع؛ ليتمكنوا من توظيف خبرتهم وحكمتهم في تسيير أمور الناس لما فيه الخير لهم، وإن تخلّفوا على ذلك فلا شرعية لهم؛ لما سينتج عن ذلك من ظلم على العباد، وتشتت شملهم، وانهيار أمتهم. من جهة أخرى، على القائد الملهم عدم التصرّف خارج حدود معرفته، والإقرار بوجود من هو أعلم منه في مجالات الحياة الأخرى، وهذا ما بيّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به". ثالثاً: على القائد الملهم حُسن التعامل مع الآخرين والعفو والصبر عليهم: فالقائد الملهِم لا ييأس من الآخرين لإيمانه بالخير والقوة فيهم، فكان أن عفا الرسول -صلّى الله عليه وسلم- على الصحابة بعد أن خالفوا أمره في غزوة أحد، وذلك بعد أن أوصاه الله تعالى بذلك بقوله جلّ وعلا: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران: 159). فالعفو والصفح عاملان أساسيان في تحفيز الآخرين؛ ليكونوا أفضل حالاً، وهذا ما أدى إلى اعتناق اليهودي الإسلام عندما زاره الرسول لعيادته وقت مرضه على الرغم من إيذائه المتكرر له. والصفح صفة لا يستطيع أي أحد أن يمتلكها إلّا في حال تمكّن من تفهّم الآخر بالاستماع له وتقدير ظروفه واحتياجاته، وإدراك الأبعاد النفسية والاجتماعية له قبل إصدار الحكم عليه، قال تعالى: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِي حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصلت: 34 و35)، وهذا ما فعله -صلى الله عليه وسلم- عندما قام حاطب بن أبي بلتعة بإفشاء سر غزو الرسول لأهل مكة من خلال كتاب أرسله مع امرأة من المشركين، وعندما واجهه الرسول أخبره أنّ السبب هو خوفه على أهله، فصدّقه وأطلقه، ومنع عمر بن الخطّاب من قتله، والآخرين من غمزه ولمزه. رابعاً: على القائد الملهِم استشارة الآخرين، واتخاذ القرار الذي تم الإجماع عليه، وهو من الأهمية البالغة لما له من أثر في إشعارهم بقيمتهم واحترامهم وكسب ثقتهم وإخلاصهم. قال تعالى: "وَالَّذِينَ استجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (الشورى: 38)، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستشير صحابته في أكثر من موضع، وفي ذلك قال أبو هريرة: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حتى قبل وضع الولاة والأمراء وقادة الجيش كان -عليه الصلاة والسلام- يستشير المسلمين في ذلك، كما استشار أصحابه في اختيار مكان غزوة بدر بقوله: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، وكان أن أشاروا عليه أيضاً في غزوة أُحُد بقتال المشركين بدلاً من التحصّن داخل المدينة، وعمل بنصيحة الصحابي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب. كما كان -عليه الصلاة والسلام- يأخذ برأي زوجاته أمهات المؤمنين، فمثلاً، أشارت عليه زوجته أم سلمة بالنحر والتحلل من الإحرام في صلح الحديبية أمام المسلمين ليقتدوا به. خامساً: لن يكون القائد ملهماً وقادراً على تحفيز الآخرين إن لم يوجد معهم في كل الأحوال لحل مشكلاتهم ولمشاركتهم المهام والمخاطر، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعقد مختلف المجالس في مسجده ومنزله، وشارك المسلمين الغزوات، وكان قادراً على إشعارهم بالنصر والأمان حتى في أحلك الظروف، تماماً كما في قوله لأبي بكر، عندما اختبأ معه في الغار: "لا تحزن إن الله معنا". وأخيراً، إن لم يساعد القائد الآخرين على استشعار رؤية أفضل للمستقبل، فلن يتمكّن من تحفيزهم والتأثير عليهم، وهذا ما كان يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوصف ثواب الجنة التي أوجدها الله تعالى للمتقين، وبحثِّ المسلمين على التنافس فيما بينهم لنيل أعلى درجاتها، وهذا ما كان سبباً في نصرة أبي الدحداح لليتيم الذي شكا نخلة جاره، بمنح مزرعته المميزة والمعروفة للجار ليتنازل عن نخلته مقابل مزارع لا تعداد لها في الجنة! بقلم إشراق كمال عرفة
لا يملك المرء نفسه من ألّا يُحبّ هذه الشخصية المتميزة، الذي كتب عن حياته الكثير من المؤرخين. أعجبت بهذا الرجل في قراءتي لتاريخ حياته بكتاب فان برودي، وما يمثلّه من مبادئ راقية وأخلاقيات رفيعة المستوى، ليس فقط كرجل سياسة ورئيس دولة، وإنما أيضاً في كافة نواحي حياته، فقد كان رجلاً مثقفاً مهذباً لطيفاً في التعامل، وزوجاً محباً مخلصاً، وأباً حانياً رؤوفاً، وصديقاً صدوقاً، حتى إنّه كان ودوداً مع أعدائه، لا عدوانياً أو خائناً، فاستمر بالتعامل معهم بصداقة لا بخساسة، وكان يفضّل الرد دوماً على أقلامهم الخبيثة التي تطال شخصه في الصحف بالصمت، ولم يتّبع أبداً ذات الأسلوب في مهاجمتهم، أي بالكتابة ضدهم تحت أسماء مستعارة، وما ساعد في صقل شخصيته قراءته للكثير من الكتب، وفي مختلف المواضيع، من فلسفة، وتاريخ، وسياسة، ورياضيات، وعلوم، إضافة إلى سفره إلى فرنسا، عندما عمل فيها وزيراً؛ إذ زاد أفق تفكيره واتسع إدراكه بالثقافة وبالأخلاقيات الفرنسية الرفيعة. ويتميّز توماس جيفرسون بالصبر والحِلم والتأني، وكان يهوى الاهتمام ببيته وبحديقته، ويحرص على تسجيل المصاريف في كتاب خاص سمّاه كتاب المزرعة "The Farm Book". وكان يعامل عبيده بكل بلطف، وينتقد التصرفات المسيئة، وكان مضيافاً وكريماً في الحب والمال، وكان يحرص على أن ينال جميع زواره أفخم الطعام والشراب الفرنسي في منزله الشهير في مونتيسلو، الذي بناه ليكون من أجمل القطع الفنيّة في ولاية فيرجينيا الأميركية، ووصل كرمه حتى لزوج حفيدته آن ابنة مارثا. وكابن، حرص جيفرسون على رعاية أمه وأخواته الخمس وأخيه الأصغر، واستمر بذلك حتى بعد بنائه لمنزله الخاص وزواجه، فقد حرص على ألا يكون بعيداً عن منزل والدته، ولم تظهر في كتاباته أي سوء عن والدته كمعظم باقي الرؤساء من بعده، فقد كان يحترمها، ويكنّ لها كل الحب والودّ، حتى إنه توقف عن نشاطه الثوري وأعماله في المؤتمر القاري لمدة ثلاثة أشهر بعد وفاتها. وكزوج، فضّل جيفرسون منزله على العمل والسياسة، فكان أن استقال أكثر من مرة ليمرّض زوجته، التي كانت دوماً طريحة الفراش بسب الحمل المتتابع وإجهاضها المتكرر، إضافة إلى مواساتها في حزنها على وفاة أكثر من نصف أطفالها، فمثلاً، استقال من الكونغرس عام 1776 ليكون بجانب زوجته التي أجهضت، وغاب عن الثورة أربعة أشهر لمرضها في حينه، وعندما شرع في كتابة كتابه "ملاحظات عن ولاية فيرجينيا"، كان أن حملت زوجته للمرة السابعة، فقرّر أن يكتب في فترة النهار والبقاء معها طيلة فترة المساء، ورفض أن يكون وزيراً في فرنسا لحملها مرة أخرى، كما طلب الاستقالة من حكم فيرجينيا رغم سماح القانون له بولاية ثالثة، وذلك ليمرّض زوجته، ولو عاشت مطولاً لما أصبح يوماً رئيساً لأميركا. وكان أن طلبت زوجته وهي على فراش الموت عدم الزواج من أخرى، وأعطاها الوعد، وكان عند كلمته، فلم يتزوّج من بعدها، وعندما توفيت في 6 سبتمبر/أيلول 1782 تعب نفسياً وانعزل عن العالم، وتجنّب حضور الحفلات، وكتب في مذكراته بعد أربعة أيام من وفاتها طريقة تحنيط عصفور صغير، في نوع من التعبير عن حزنه على وفاتها، ورغبته في تخليد ذكراها بطريقة غير مباشرة؛ لئلا تتأثر بناته اللواتي حرص على رعايتهن بنفسه حتى بعد زواجهن. وكوالد، حرص جيفرسون على تربية بناته تربية صالحة، فمثلاً، أوصاهن بالاهتمام بالنظافة والمحافظة على هندامهن مرّتباً، وعدم التكلّم بسوء، كما طلب منهن الالتزام ببرنامج للقراءة من الصباح إلى المساء، واهتم بدراستهن. وكان جيفرسون حريصاً على الاستمرار بالتواصل مع بناته في سفره لمتابعة شؤونهن ولإمدادهن بالنصيحة والمشورة. فمثلاً، عندما تزوجت ابنته مارثا، أرسل لها رسالة قال فيها إن عليها تسخير نفسها لإسعاد زوجها، الرجل الوحيد في حياتها، وأن يحظى بالأولوية حتى على نفسه، وأوصاها بأن تكون جيدة ومحترمة وصبورة ومعطاءة ليحبها الجميع. وعندما استقال من وزارة الخارجية في أبريل/نيسان 1793، عرض عليه جورج واشنطن العودة إلى فرنسا، فرفض عبور الأطلسي مرة أخرى، وقضى 3 سنوات معتكفاً في منزله بمونتيسلو، من يناير/كانون الثاني 1794 حتى فبراير/فبراير 1797، ومن رسائله ظهر مدى سعادته في وجوده هناك وعدم رغبته في العودة إلى السياسة، وفي هذه الفترة استمتع بقراءة كتبه، واهتم بحديقته، واستظل بحب عبيده وأطفاله وأحفاده، فقد كان يطلب دوماً من ابنتيه مارثا وماري الإقامة لديه حتى بعد زواجهما. وكان يحب أن يقضي إجازاته في مونتيسلو أثناء رئاسته للبلاد؛ إذ قضى فيها ما مجموعه 13 شهراً في فترة رئاسته الأولى. وعندما أصيب زوج ابنته مارثا بمرض نفسي، عمل على رعايتها مع ولديها، ثم تركت له ابنها توم بعمر السنتين بعد أن أخذت آن ذات الأربعة أعوام. وكان جيفرسون مسانداً دوماً لابنتيه في لحظاتهما الصعبة، فمثلاً، عندما انعزلت ابنته مارثا عن العالم بسبب حزنها على مرض زوجها، كتب لها رسالة لطيفة حاول فيها أن يثنيها عن ذلك بأسلوب رقيق حانٍ، وعندما فقدت ابنته ماريا طفلها لحظة ولادته، كتب لها رسالة كلها تعاطف ومواساة، حتى إنه لم يمانع من شرح ظروفه لهما التي أجبرته على الابتعاد عنهما، فمثلاً، بعث برسالة إلى ابنته ماريا التي لامته على غيابه، موضحاً فيها موقفه واعتذر إليها، وبيّن أن سبب اهتمامه بالسياسة رغبته في حكومة إصلاحية تحقق ما سخّر من أجلها حياته، فيستقيل حينها ليعيش معهم بسلام ورخاء وأمان وحرية، بذلك، تمكّن جيفرسون من حسن تربية ابنتيه. وشهد زائروه بذلك. وكان جيفرسون سنداً حتى لأبنائه بالقانون (زوجي ابنتيه)، فقد أدخلهما الكونغرس، وساعد زوج مارثا في محنته عندما حاول الانتحار أكثر من مرة، وذلك برسائل لطيفة وجدانية. كما كان جيفرسون كريماً مادياً، فقد عمل على تسديد ديون زوجته التي كانت وقتها أكثر من ثلاثة آلاف باوند، ولم يمانع من دفع المبلغ مرتيّن؛ لأن مكتب أراضي فيرجينيا في حينها رفض العملة البريطانية، فاضطر إلى الدفع بالعملة الأميركية، وعلى الرغم من أنّه كان مثقلاً بالديون، فإنه وافق على كفالة حفيده توماس راندولف بالتوقيع على قرض بمبلغ 20 ألف دولار أميركي، ورفض بيع عبيده للتخفيف من ديونه من أجل أن ترثهم ابنته مارثا لعلمه بوضع زوجها الاقتصادي السيئ. في نهاية قراءتي لتاريخ توماس جيفرسون، أدركت أنه حان الوقت ليتساءل كل واحد منا عن طبيعة الموروث الذي يريد تركه في هذه الحياة، فقد نجح توماس جيفرسون في تحقيق الحرية والديمقراطية في أميركا، وبإبقائها متحدة، لذكائه وحلمه وحسن حكمه، فكان أن انتعشت وقادت العالم، وأضحى منزله في مونتيسلو من أبرز المناطق السياحية في ولاية فيرجينيا، فقد نجح في بناء "قِبلة الديمقراطية"، كما أحبت فان برودي أن تصفه في نهاية كتابها! |
Archives
November 2018
Categories |